غزة- إبادة جماعية ممنهجة أم عدوان عسكري بوحشية غير مسبوقة؟

ألسنا نشهد في غزة مجرد اعتداء عسكري فحسب؟ أم أننا نواجه مخططًا شاملاً للإبادة الجماعية والتطهير العرقي، يستند إلى أسس عنصرية عميقة الجذور؟
إن السلاح الأميركي، بغض النظر عن تسمياته المتنوعة والجهة التي تستخدمه، هو ذاته الذي ارتكب فظائع ضد الإنسانية في هيروشيما وناغازاكي قبل ثمانية عقود، ولا يزال مصراً على إتمام فصول هذه الجريمة، ولكن هذه المرة ضد الشعب الفلسطيني الأعزل، وبأيدٍ صهيونية متجردة من أبسط معاني الإنسانية.
في التجربة اليابانية، كان الهدف الأميركي من الهجوم الذري الوحشي هو إرغام اليابان على الاستسلام والرضوخ التام دون قيد أو شرط، حتى وإن كان ذلك على حساب أكثر من مئتي ألف قتيل، وملايين المصابين الذين ورثوا آثار التسمم الإشعاعي جيلاً بعد جيل.
لا نقصد هنا عقد مقارنة بين ضحيتين، بل نسعى لتوضيح كيف أن الأدوات ذاتها تُستخدم بأيدي مختلفة، ولكنها تصب في خدمة ذات المنظومة الاستعمارية الشرسة.
لاشك أن التاريخ لا يرحم، والأكثر تأكيدًا أن سنة الله ماضية في الطغاة الظالمين، فكلما تفاقم الطغيان وتعاظم الظلم، كانت النهاية بلسمًا شافيًا لقلوب المؤمنين.
لقد أسس الاحتلال الصهيوني، الذي تعجز الكلمات عن وصف مدى وحشيته وضراوته، خطابه المضلل على ركائز عدة، من بينها نزع صفة "الإنسانية" عن المواطن الفلسطيني، ليمهد الطريق أمام مئات الآلاف من الجنود الذين تدفقوا من أصقاع الأرض تحت راية دولة استعمارية دخيلة، وهؤلاء الجنود قد تشبعوا بممارسة القتل السادي والتفنن فيه، اعتمادًا على قوة السلاح الأميركي الفتاك، وبالاستناد إلى الأسس النظرية والمعتقدات العقائدية التي يعيد ساسة الكيان الصهيوني المارق إنتاجها في صورة مبررات زائفة وحملات دعائية وتسويق سياسي باهت، لا يوجد ما هو أفظع منها إلا من يصدقها ويشارك فيها.
أذكركم بتصريحات وزير الحرب الصهيوني السابق يوآف غالانت في أكتوبر/تشرين الأول 2023 المشينة، حين قال: "نحن نقاتل حيوانات بشرية ونتصرف بناءً على ذلك". وسأعرض عليكم جزءًا يسيرًا فقط من التصريحات المتكررة التي تكفي وحدها -إذا ما وجدت عدالة دولية ناجزة- لإلقاء قائلها خلف القضبان، باعتبارهم خطرًا محدقًا بالوجود الإنساني برمته، فما بالكم وقد تحولت هذه التصريحات إلى حمم من الموت الزاحف، تُلقى على المدنيين الأبرياء وتستهدف الأطفال في قطاع غزة المحاصر!
وزير المالية الإسرائيلي المنفصل عن التاريخ، بتسلئيل سموتريتش، وهو الأوكراني الذي يستوطن في مغتصبة أدوميم غرب نابلس في الضفة الغربية، تلك الأرض التي كانت تحتضن محطة قطار سبسطية العريقة التي تعود بجذورها التاريخية إلى الحقبة العثمانية، والتي كان يسكنها شعب فلسطين العربي قبل قيام دولة الاحتلال الإسرائيلي، وقبل حتى نشأة أوكرانيا نفسها كدولة، يصرح بوقاحة قائلاً: "لا وجود لشعب فلسطيني"، و"تجويع سكان قطاع غزة حتى الموت قد يكون أمرًا مبررًا وأخلاقيًا"، و"إن فتح أبواب الجحيم ليس مجرد شعار، بل سيتحقق على أرض الواقع"، "نحن نقوم بتفكيك غزة بالكامل منذ سنة ونصف، وسنحولها إلى ركام، ولن يترك الجيش فيها حجرًا على حجر".
أما نسيم فتوري، نائب رئيس الكنيست وأحد أبرز المشرعين المتحمسين لجرائم الإبادة الجماعية، فيقول بوقاحة نقلاً عن القناة 13 العبرية: "الحل الوحيد يكمن في حرق غزة بأكملها بمن فيها مرة واحدة"، ويخاطب الجيش الوحشي قائلاً: "هدفنا المشترك هو محو قطاع غزة عن وجه الأرض"، "احرقوا غزة على الفور".. لقد قلت مرارًا وتكرارًا إن النازية ليست سوى تلميذ مبتدئ في مدرسة الصهيونية اللاإنسانية.
أما وزير ما يسمى بالتراث الإسرائيلي (المزيف بطبيعة الحال) عميحاي إلياهو، الذي لم يتمكن من إخفاء فرحته بضحايا الزلزال المدمر الذي ضرب تركيا وسوريا في فبراير/شباط 2023، ووصفه بأنه "عدالة إلهية"، فيقول بكل سادية فاقت كل تصور: "على الجيش أن يبتكر طرقًا أكثر إيلامًا من الموت للمواطنين في قطاع غزة"، "إن مجرد قتلهم (قتل أهالي غزة) ليس كافيًا".
أما إيتمار بن غفير، العراقي الأصل -والعراق وأهلها براء منه- فقد صرح قائلاً: "لن نسمح بدخول ذرة واحدة من المساعدات إلى قطاع غزة حتى يركع أهلها ويتوسلون إلينا"، "غزة يجب أن تُسوى بالأرض، ولا يوجد شيء اسمه أبرياء".
أما موشيه فيغلن، زعيم حزب زيهوت المتطرف، فقد صرح بوضوح لا لبس فيه قائلاً: "كل طفل في غزة يُعتبر عدوًا"، "علينا احتلال غزة بالكامل حتى لا يبقى فيها طفل واحد، فلا يوجد نصر آخر ممكن".
هل كانت هذه التصريحات مجرد كلمات عابرة لا يعتد بها، أم أنها تحولت إلى جريمة إبادة جماعية هي الأبشع والأكثر دموية في التاريخ الحديث؟
إن هذه اللغة البذيئة ليست مجرد تعبيرات انفعالية أو آراء فردية معزولة، بل هي تجسد عقيدة سياسية راسخة ومتأصلة في صميم بنية الدولة الصهيونية، وتُترجم يوميًا إلى سياسات إبادة قذرة على أرض الواقع، في ظل صمت دولي معيب ومخزٍ. فخلال أكثر من 600 يوم من الإبادة المتواصلة، تم تدمير ما يقارب 90% من قطاع غزة تدميرًا شاملاً، حتى منطقة المواصي التي زعم الاحتلال أنها "منطقة آمنة"، لم تسلم من قصفه الإجرامي الذي طالها 46 مرة.
لقد تجاوز عدد الشهداء والمفقودين من المدنيين 63 ألفًا، من بينهم أكثر من 18 ألف طفل بريء، وحوالي 12 ألفًا و400 شهيدة من النساء، بينهن 7.950 أمًّا فقدت حياتها. وقام الجيش الصهيوني بإبادة 2.483 عائلة فلسطينية بأكملها، ليتم محوها من السجل المدني.
ارتفعت نسبة الشهداء من الأطفال والنساء وكبار السن لتتجاوز 60%، فيما خلفت حرب الإبادة الوحشية أكثر من 42 ألف طفل يتيم، بعد أن قتل الجيش الصهيوني أحد والديهم أو كليهما. يشكل الأطفال في قطاع غزة ما يزيد على 47% من إجمالي عدد السكان، أي ما يزيد على مليون نسمة، ولم يترك الجيش الصهيوني طفلاً واحدًا منهم إلا واعتدى عليه بطريقة أو بأخرى، سواء بالقتل المباشر أو التشويه والاختطاف والإجبار على النزوح القسري والحرمان من الرعاية الصحية الضرورية، نتيجة لتدمير المستشفيات والمراكز الصحية بشكل ممنهج، ومن نافلة القول إن هذا الجيش المتوحش الذي ينزع عن الأطفال حقهم الأساسي في الحياة لن يولي أي اعتبار لحقوقهم الأخرى، كالحق في التعليم والرعاية الصحية.
وقد بلغت الجريمة ذروتها عندما فرضت دولة الاحتلال حصارًا مطبقًا وشاملاً على القطاع بأكمله، وهذا الحصار الخانق لا يستهدف المقاومين في المقام الأول، بل يستهدف الأطفال حديثي الولادة وكبار السن والمرضى الذين تعتمد حياتهم على توفر المستلزمات الطبية والرعاية الصحية.
ويتمادى الجيش الصهيوني في جريمته النكراء باستهداف كل من ينقل هذه الحقائق المروعة، وأقصد بهم الإعلاميين، حيث وصل عدد الشهداء من الصحفيين إلى 226 شهيدًا منذ بداية حرب الإبادة الجماعية الشرسة ضد الشعب الفلسطيني في قطاع غزة.
إن ما تمارسه دولة الاحتلال بحق المدنيين الفلسطينيين العزل يندرج بوضوح تحت تعريف جريمة الإبادة الجماعية الوارد في المادة الثانية من اتفاقية منع الإبادة الجماعية لعام 1948، والتي تتضمن: القتل الجماعي، إلحاق الأذى الجسدي والنفسي الخطير، وفرض ظروف معيشية قاسية تؤدي إلى الفناء التام. وكل هذه الأركان متحققة ميدانيًا على أرض الواقع في قطاع غزة المحاصر.
إن السلاح الأميركي الذي نفذ الهجوم النووي المروع على هيروشيما وناغازاكي كان يهدف إلى فرض الاستسلام على اليابان، ولكن فكرة الاستسلام هذه غير موجودة إطلاقًا في قاموس أصحاب الأرض الفلسطينية وسكانها الأصليين.
إن ألم حصار غزة قد تجاوز فظائع ما حدث في لينينغراد، كما أن مدة حرب الإبادة المفروضة عليها ومقاومة كل محاولات إخضاعها قد فاقت بشاعة معركة ستالينغراد، ونصرها القادم المؤزر، بإذن الله تعالى، سيكون بلسمًا شافيًا لقلوب المؤمنين، وغزة هي رمز الصمود الذي سينثر بذور الحرية، ويعلن عن النهاية الوشيكة للمشروع الصهيوني البغيض في منطقتنا، مصداقًا لقوله تعالى: "وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُون".
على العالم أجمع أن يحسم خياره: إما الوقوف بحزم إلى جانب الإنسانية والعدالة، أو أن يكون شريكًا متواطئًا في أكبر جريمة إبادة جماعية يشهدها القرن الحادي والعشرين.